حق الاعتراض(الفيتو) بين الفرض والرفض 4/6
سليم يونس
ربما هي الصورة الأكثر مجافاة لمنطق وطبيعة الأشياء، أن تتفق للمرة الأولى الدول الكبرى المتناقضة حد النفي، على العمل من أجل الاستحواذ على السلطة في التنظيم الدولي الجديد، من خلال قصر حق الاعتراض(الفيتو) على الخمسة الكبار، وما بين الرفض والتبرير والفرض جرى إقرار امتیاز حق الاعتراض(الفيتو) في مؤتمر سان فرانسيسكو، دون أن تستطيع الدول الصغيرة أن تغير من طبيعة الاتفاق الذي أقره الكبار في مؤتمر يالطا، قبل عرضه على بقية دول العالم آنذاك.
وفي مجرى محاولات الدول الكبرى تبرير وضعها المتميز في مجلس الأمن الذي تضمنه الميثاق في مادته الثالثة والعشرين الفقرة الأولى والمادة السابعة والعشرين الفقرة الثالثة، حاولت إرجاع ذلك التميز إلى أنها هي لا غيرها، التي تحملت العبء الأكبر من أوزار الحرب العالمية الثانية بما خلفته من دمار وخراب، كما أن وزنها السياسي والاقتصادي والعسكري يمكنها من أن تلعب دورا فعالا في مجال صيانة السلم والأمن الدوليين، وتحقيق الأمن الجماعي، ولذلك فقد أصرت تلك الدول على تضمين الميثاق، نصا صريحا بأسمائها وحكوماتها أعضاء دائمين في مجلس الأمن(۱).
ومن ثم فإن إرادة الدول الكبرى ورغباتها هي التي سادت في ظل ممانعة الدول الصغرى، وخوفها من أن يذهب حلم إقامة منظمة دولية جديدة تجنب العالم ويلات الحروب أدراج الرياح، ولا يمكن فهم ما قاله المندوب الأمريكي في مؤتمر سان
فرانسيسكو “إن في وسعهم قتل الفيتو إذا أحبوا ولكن لن تكون هناك أمم متحدة إذا فعلوا ذلك”(2)، إلا في إطار سياسة الإكراه التي مارستها الولايات المتحدة الأمريكية دون غيرها على بقية دول العالم آنذاك، وبما يترتب على هذا الإكراه من إنشاء لحق تشوبه العيوب.
وبذلك لم تنفع كل محاولات الدول الصغرى في ثني الدول الكبرى عن خص نفسها بهذا الحق، رغم أن الدول الصغرى هاجمت هذا الامتياز، الذي يميز بين الدول رغم نص ديباجة الميثاق على المساواة بينها، مما دفع الدول الكبرى لأن تصدر تصريحا مشتركا عبرت فيه عن تعهدها بعدم استعمال حق الاعتراض إلا في أضيق الحدود(3)، الأمر الذي كذبته على طول الخط تجربة العقود التي تلت إنشاء منظمة الأمم المتحدة، لأن الولايات المتحدة كانت من أكثر الدول الدائمة استخداما تعسفيا لهذا الحق، وبشكل مناف لكل مبادئ العدل والحق، بأن وظفت هذه المكنة ضد قضايا التحرر وفي خدمة الأنظمة العنصرية في إفريقيا والكيان الصهيوني في فلسطين.
وضمن هذا السياق المجافي يمكن قراءة الدور الأمريكي الذي كان حاسما في فرض امتياز الاعتراض(الفيتو) على المجموعة الدولية، وبالطبع ما كان من المتوقع أن لا تقبل أيا من الدول الأربعة الأخرى ذلك، لأنه وافق رغبتها ابتداء، فالمسؤولون الأمريكيون في إطار الضغط المباشر وغير المباشر، ادعوا أنهم سيكونون عاجزين عن منع الأمم المتحدة من أن تكون محملة بنفس عائق الامتناع الأمريكي الذي أدى إلى كثير من النتائج السلبية في عصبة الأمم، عند تقديم مشروع الميثاق بلا ” فيتو” إلى مجلس الشيوخ الأمريكي، ومن ثم فإن تضمين الميثاق لحق الاعتراض(الفيتو) بمثابة ضمان لأن تضم الأمم المتحدة الدول الكبرى بين أعضائها وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
ويمكن الإشارة هنا إلى أنه رغم الفارق النوعي في القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية للدول المنتصرة وبقية دول الأمم المتحدة، إلا أن تلك الدول الصغيرة لم تستسلم طوعا لقانون هذه القوى، بل بادرت بعد إبلاغها بمقترحات دومبارتن أوكس إلى بحث تلك المقترحات بحثا مستفيضا، وبعد إعلان الحل الخاص بمسألة التصويت في مجلس الأمن في مؤتمر يالطا، بادرت هذه الدول أيضا إلى درس تلك التعديلات التي بلغت ألف ومائة تعديل قدمتها تلك الدول، وهو ما يؤشر على مدى الحرص التي قبلت به تلك الدول صياغة ميثاق يلبي حاجات مجموع الدول كبيرها وصغيرها.
وفي إطار السعي لتصحيح انعدام المساواة التي شرعها حق الاعتراض(الفيتو) بين الدول، تقدمت كثير من الدول التي شاركت في مؤتمر سان فرانسيسكو بتعديلات كثيرة على تلك المقترحات، وكان بعض تلك التعديلات يهدف إلى نفي فكرة المراكز الدائمة للدول الخمس، فيما يقترح بعضها الآخر الزيادة في عند العضوية الدائمة، أو يقترح إنشاء مراكز شبه دائمة.
فيما اعتبر البعض أن اصطناع الخمسة الكبار للوحدة كحجر أساس لیس سوى طريقة أقحمت زورا ومكرا، لكي تشكل القلة حكومة تستأثر بالسيطرة على بقية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وبدلا من تقبل مبدأ الديمقراطية الدولية، فإن أولئك الكبار الذين خصوا أنفسهم بذلك الحق قد دبروا مؤامرة لينصبوا أنفسهم حكاما على الكرة الأرضية في الوقت الذي كان فيه العالم يتطلع بشوق وحنين إلى بزوغ فجر يوم جديد في المساواة والعدل الدولي.
وفي الوقت الذي أصرت فيه أغلبية الدول المدعوة على رفض فكرة حق الاعتراض(الفيتو)، طلب بعضها التخفيف من حدته، وبالإضافة إلى ذلك دعت إلى تفسير الحل الذي اتفقت عليه الدول الكبرى في مؤتمر يالطا وكيفية تطبيقه على بعض الحالات.
وللالتفاف على رفض تلك الدول، ومن أجل تمرير ذلك الامتياز بإجماع دولي، لتكريس سابقة قانونية ملزمة للجميع، استجابت الدول الكبرى للدعوة التي تطالب بالتفسير، وقامت بتنفيذها، غير أنها تعارضت في وجهات نظرها في التفسير، ولذلك شكلت لجنة فرعية مشتركة بين ممثلي الدول الكبرى الخمس وممثلي دول استراليا، وكوستاريكا، وكوبا، ومصر، واليونان، وهولندا بغية التوصل إلى تفسير واضح للقاعدة التي اتفقت عليها الدول الكبرى في يالطا، ووجهت إلى ممثلي الدول الكبرى مذكرة تضمنت ثلاثة وعشرين سؤالا موزعة على نصوص الميثاق، فوعدت الدول المرشحة للعضوية الدائمة في مجلس الأمن بإعداد تصریح مشترك يتناول الرد على تلك الأسئلة التي وجهت إليها.
وعندما أعد التصريح المشترك وأعلن على أعضاء اللجنة، فإذا به تصریح ينطوي على الغموض واللبس ولا يتضمن الإجابة الصريحة على الأسئلة التي وجهت إلى الدول العظمى، وهنا احتدم الخلاف من جديد في مؤتمر سان فرانسيسكو، وذلك يعني أن استجابة الدول الكبرى لدعوة الدول الصغرى لم تكن أكثر من مظهر احتفالي ليس إلا.
لقد نجحت الدول الكبرى في خص نفسها بامتياز الاعتراض وضمنته ميثاق الأمم المتحدة عنوة، عندما فشلت في أن تحصل على هذا الامتياز بالطرق القانونية المرعية، لأنه يخالف القواعد القانونية ومبادئ العدل، بعد أن رفضته بقية دول العالم، ومن ثم رفضت فكرة استئثار الدول الكبرى بقيادة النظام السياسي العالمي.
وإذا كان الميثاق قد أقرته مجموع الدول المشاركة في سان فرانسيسكو فإنه والحق يقال: إن الدول الكبرى قد تبنت قيم الـ(لا عدالة) والـ(لا مساواة) بفرضها حق الاعتراض، فيما ساهمت الدول الصغرى في صياغة أحكام الميثاق الباقية بما تحويه من قيم الديمقراطية والعدالة(4).
المصادر
- د. عدنان طه مهدي الدوري، مصدر سبق ذكره، صفحة 66.
(2)د. محمود صالح العادلي، مصدر سبق ذكره، صفحة 390.
(3)-د. عبدالسلام صالح عرفة، مصدر سبق ذكره، صفحة166-16
(4)محمد العالم الراجحي، مصدر سبق ذكره، صفحة 82-87.