حكايات العسكر والمقاولين التي لا تنتهي.. لماذا تعثر أكبر مشروع سكني يشيده الجيش المصري؟
«دار مصر» الكل يتحدث عنها ولكنْ قليلون من يسكنون بها، إنها تمثل أكبر مشروع سكني يشيده الجيش المصري لمواطنيه، وأحد أكبر المشروعات السكنية للطبقة المتوسطة في مصر.
ولكن المشروع الذي تشرف عليه الهيئة الهندسية للقوات المسلحة يتعثر بعد مرور سنوات على إطلاقه وتأخر تنفيذه وفق جدول زمني محدد، إضافة إلى مشكلة في معايير الجودة بالمشروع.
ويعد مشروع «دار مصر» السكني، أحد أكبر المشروعات السكنية على الإطلاق في مصر عند إطلاقه في 2014، بالشراكة بين وزارتي الإسكان والدفاع.
ولطالما دافع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عن مشاركة القوات المسلحة في تنفيذ تلك المشروعات، والإشراف على البعض الآخر بالالتزام بمعايير الجودة، والإطار الزمني المحدد لاكتمال التنفيذ والاستلام.
وقال السيسي خلال المؤتمر الثامن للشباب، في منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، إن الجيش أشرف على مشروعات تُقدر قيمتها بأربعة تريليونات جنيه مصري، من بينها مشروعات طرق بـ 175 مليار جنيه، خلال السنوات القليلة الماضية.
ووصف السيسي خلال الندوة التثقيفية الـ31 للقوات المسلحة، منتصف أكتوبر/تشرين الأول الجاري، ما نفذه الجيش من مشروعات بأنه «يفوق الخيال»، قائلاً: «والله العظيم اللي اتعمل بواسطة الجيش في مصر فوق الخيال ويتكتب في التاريخ».
إلا أن مشروع «دار مصر» للإسكان المتوسط في 12 مدينة جديدة، والذي انطلق في النصف الثاني من عام 2014 لإنشاء 150 ألف وحدة سكنية كاملة التشطيب، فشل في تحقيق هذه المعادلة.
واللافت أن مشروعات أخرى لوزارة الإسكان لم تنفذها القوات المسلحة بدأت بعده وانتهت قبله مثل مشروع «سكن مصر»، الذي طرحته الوزارة في 2017، وانتهى في 2019، وهي الآن بصدد تسليم الوحدات لحاجزيها.
الإسناد «بالباطن» للمقاولين مع توريطهم في خسائر هائلة
وبعد نحو ست سنوات من إطلاق مشروع دار مصر، الذي يعد أحد أول وأكبر مشروعات الجيش، لا يزال المشروع متعثراً، ولم تنته أعمال البناء في المرحلة الأولى، في بعض المدن، وفي المرحلة الثانية في مدن أخرى.
اللافت أن كل ما قامت به الهيئة الهندسية للقوات المسلحة هو أخذ المشروع من الوزارة وإسناده من الباطن لمئات المقاولين غير الحكوميين.
وتسبب المشروع في خسائر «فادحة» للمقاولين، وفق ما أكد أحدهم أثناء زيارة إحدى المدن المقام عليها المشروع.
وأكد المقاول «علي الصعيدي» أن أعمال البناء لا تزال متراكمة في بعض الأماكن، كما ترى الآن بالمرحلة الثانية؛ بسبب تأخر شركة المقاولات في صرف مستحقاتنا من أجل استكمال العمل حتى الآن».
لهذا السبب تعثر المشروع
ويتكون المشروع من أربع مراحل تشمل بناء 150 ألف وحدة سكنية بمساحات 100م2 و130م و140 و150م2 باستثمارات أولية 15 مليار جنيه، ونهائية بنحو 70 مليار جنيه، قبل التعويم، بعد زيادة عدد الوحدات إلى 250 ألفاً.
ووصف وكيل لجنة الإسكان بمجلس الشعب المصري السابق لدورات عدة، عزب مصطفى، ما يجري في المشروع من مخالفات «بالفساد»، قائلاً: «الجيش يحصل على المشروعات بالأمر المباشر، ويسند المشروعات لمقاولين بالباطن».
وقال لـ «عربي بوست»: «لذلك تجد الوحدات السكنية غير مطابقة للمواصفات، عدم الالتزام بمواعيد الاستلام، وقيام الإدارة الممثلة في القوات المسلحة بالمماطلة في تسليم المستخلصات للمقاولين».
ممنوع التصوير
في أحد مواقع المشروع السكني، الذي تشرف عليه الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، يرفض الضابط المسؤول دخول الموقع والقيام بتصوير الأعمال الجارية، والإنشاءات المستمرة، بعد تكرار عرض الصور على مواقع التواصل.
وشهدت مواقع التواصل الاجتماعي شكاوى آلاف الحاجزين في الوحدات السكنية من تأخر تسليم وحداتهم، ومن وجود عيوب ظاهرة في الوحدة بعد تسليمها، ونقص الخدمات المقدمة في الموقع بسبب استمرار أعمال الإنشاءات.
وكشف جمعة السيد، أحد المقاولين من الباطن لـ «عربي بوست» أن «هناك بعض المشروعات لن تنتهي قبل حلول عام 2020 وستمتد في بعضها لمنتصف هذا العام، على الرغم من أن موعد الاستلام تم تحديده بعام ونصف فقط من بدء المشروع في عام 2015».
وأضاف: «ما يعني أن أجزاء كبيرة من المشروع تأخر تسليمها ثلاث سنوات، وربما يمتد التأخير لأربع سنوات؛ بسبب تأخر الجيش في تسليم شركات المقاولات مستحقاتهم، وفرق أسعار الدولار قبل وبعد التعويم، وبالتالي تخلف الشركات عن سداد مستحقات المقاولين المنفذين الفعليين للمشروع».
وتم بيع الوحدات للحاجزين قبل تعويم الجنيه وانخفاض سعره بشكل كبير أمام الدولار، ولكن أغلب مراحل البناء وخاصة التشطيب جرت بعد التعويم ما جعل التكلفة الحقيقية أكبر كثيراً من التي كانت مقدرة في بداية المشروع.
ومع أن هذا حقق منفعة لمن اشتروا شقق دار مصر التي تضاعف ثمنها مع تضاعف الدولار، لكن في المقابل أدى ذلك لمشكلات في التشطيب وتأخير في التسليم.
وبسبب عدم تعويض المقاولين بما فيه الكفاية عن فروق أسعار مستلزمات البناء التي قفزت بعد التعويم فإن بعضهم يلجأ إلى خامات أقل، الأمر الذي أدى إلى مشكلات في الصرف الصحي والكهرباء والتشطيب.
ورغم أن شكل البنايات السكنية للمشروع مميز ويشبه الكومباوندات الراقية إلى حد كبير، فإن الحاجزين عندما فحصوا شققهم أصيب كثير منهم بالصدمة من الخامات المستخدمة وعيوب التشطيب.
موقف الحاجزين.. لا يحسدون عليه
في سبتمبر/أيلول 2014، تم توقيع بروتوكول بين وزارة الإسكان ممثلة في هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، ووزارة الدفاع ممثلة في الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، لتنفيذ 150 ألف وحدة سكنية من الإسكان المتوسط، في 8 مدن جديدة، لتبدأ فيها المرحلة الأولى.
وفي يناير/كانون الثاني 2016، قال وزير الإسكان آنذاك، مصطفى مدبولي، رئيس الحكومة الحالي، في تصريحات صحفية إن «الرئيس عبدالفتاح السيسي مهتم جداً بالمشروع، وكلف منذ أيام بزيادة عدد الوحدات به من 150 ألف وحدة إلى 250 ألف وحدة.
ودفع تأخر القوات الهندسية في تسليم الحاجزين وحداتهم السكنية منذ عام 2015 إلى عرضها للبيع؛ بسبب اضطرارهم لدفع أقساط الوحدة منذ ذلك التاريخ إلى اليوم، إلى جانب التزاماتهم الإيجارية الأخرى.
وقال أحد الملاك، مايكل لبيب، لـ «عربي بوست»: «عرضت شقتي للبيع لأني كنت أحتاجها قبل ثلاث سنوات، من أجل زواجي، ولكن اليوم وبعد مرور خمس سنوات، لم أعد بحاجة إليها، لقد اشتريت أخرى، وانتهى الأمر».
وطالب «الحكومة بالمرونة مع الملاك في تحصيل الأقساط، خاصة بعد رفع الإيجارات، وزيادة قيمة الأقساط، دون وجود خدمات متكاملة، إضافة إلى العيوب الكثيرة التي ظهرت في العديد من الوحدات، وسوء التشطيب، جميعنا شاهدناها في وحداتنا».
غياب الرقابة باب للفساد
ورأى وكيل لجنة الإسكان بمجلس الشعب المصري السابق، عزب مصطفى، أن من «أهم مظاهر الفساد في هذا الشأن عدم وجود جهة رقابية لأن القوات المسلحة فوق المحاسبة والرقابة».
وأشار إلى أن «هذا ليس المشروع الوحيد الذي تعثروا في إنجازه، فهناك العديد من المشروعات لم تنفذ أصلاً رغم البدء فيها، كالمليون وحدة سكنية، واستصلاح أربعة ملايين فدان، ثم تقلصوا إلى مليون ونصف المليون فدان، وغيرها من الوعود الكثيرة، فمصر تعيش أكبر مرحلة نهب وفساد في تاريخها».