سؤال لقاحات كورونا: متى تعود حياتنا إلى طبيعتها كما كانت قبل الوباء؟
والمقصود بالعودة إلى الحياة كما كانت قبل تفشي وباء كورونا يحمل في طياته أموراً كانت بديهية في ذلك الوقت مثل عدم ارتداء كمامة أو تبادل السلام بالأيدي أو حتى الأحضان مع أفراد العائلة والأصدقاء، لكن الصورة الأكبر هي عودة الأنشطة الاقتصادية إلى ما كانت عليه والسفر دون خوف إلى آخر تلك القائمة.
ومنذ انطلقت برامج التطعيم الجماعي ضد فيروس كورونا في الكثير من البلدان حول العالم، تعاظم الأمل في النفوس وأصبح السؤال الأكثر ترديداً هو: أيمكن أن تعود حياتنا إلى الوضع الطبيعي بعد أن تنتهي حملات التلقيح؟
بريطانيا تقدم النموذج في معركة اللقاح
نأخذ المملكة المتحدة نموذجاً لسببين مهمين، الأول هو أنها كانت أول بلد يبدأ في تطعيم مواطنيه بلقاح خضع لاختبار كامل ومصرح باستخدامه ضد كوفيد-19 أو المرض الناتج عن فيروس كورونا المستجد، والثاني هو ظهور سلالة بريطانية من كورونا أكثر قدرة على الانتشار وربما أكثر فتكاً أيضاً.
واليوم بريطانيا من بين أعلى دول العالم في معدلات التلقيح لمواطنيها، وبالتالي فإن السرعة المتوقعة لعودة المملكة المتحدة – وربما بقية العالم- إلى شكل من أشكال الحياة الطبيعية هو سؤال منطقي. والحقيقة هنا هي أنَّ ذلك لن يكون قريباً جداً، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
إذ يتفق خبراء الصحة العامة إلى حد كبير على أنَّه من غير الواقعي الرهان على كون اللقاح رصاصة سحرية تقضي على الجائحة، ويقولون إنَّ وسائل الوقاية من فيروس كورونا، مثل الكمامات والتباعد الاجتماعي، على الأرجح ستبقى كما هي لعدة أشهر على الأقل.
فقال د. بول هانتر، أستاذ الطب بجامعة إيست أنجليا البريطانية، لشبكة CNN الأمريكية، إنَّه لابد من وضع العديد من العوامل في الحسبان قبل تخفيف حالة الإغلاق في المملكة المتحدة، تبدأ من حدوث انخفاض كبير في الحالات الشديدة والوفيات. وأضاف: “المسألة في الحقيقة تعود إلى الأرقام”.
لكنَّ حالات التفشي لا تزال خارج السيطرة في عموم المملكة المتحدة، حيث سُجِّلَت يوم الأربعاء الماضي، 27 يناير/كانون الثاني، أكثر من 25 ألف إصابة و1725 حالة وفاة بفيروس كورونا. وطبقاً لمتوسط 7 أيام من البيانات الحكومية، كانت الصورة قاتمة أيضاً الأسبوع الماضي، مع تسجيل 35900 حالة يومياً ومتوسط أكثر من 1240 حالة وفاة يومياً. وسجلت المملكة المتحدة قبل أسبوعين أعلى معدل وفيات في العالم.
يظل إذاً التساؤل بشأن مدى السرعة التي يمكن أن يُسهِم بها اللقاح في تسطيح منحنى الإصابات تساؤلاً رئيسياً. لكن هناك أيضاً العديد من المجاهيل التي تحيط باللقاحات قيد الاستخدام حالياً، مثل ما إن كان بإمكانها وقف نقل العدوى أم لا، وكم من الوقت يمكنها توفير مناعة. يعني هذا أنَّه من الممكن أن يظل الأشخاص المُطعَّمون ناقلين للفيروس، أو ربما يُصابون به في تاريخ لاحق، في حال جرى تخفيف إجراءات التباعد الاجتماعي بصورة كاملة.
وفي حين كان برنامج التطعيم في المملكة المتحدة ناجحاً حتى الآن، هناك عامل رئيسي آخر يجب أخذه في الاعتبار: معدل تغطية اللقاحات. فأولاً، اللقاحات متاحة الآن للفئات ذات الأولوية، التي تُشكِّل نحو 20% من سكان المملكة المتحدة، وهي فئات تشير الدراسات إلى أنَّها أكثر احتمالاً لتناول اللقاح.
وحين يصبح اللقاح متاحاً للسكان على نطاق أوسع، يُتوقَّع أن يتراجع معدل الحصول على اللقاحات، لأنَّ بعض السكان لن يكونوا قادرين على الحصول عليه (الأطفال والحوامل أو المرضعات على سبيل المثال)، في حين قد يكون آخرون مترددين في الحصول عليه.
مجموعات مترددة أو ترفض اللقاح
فعلى سبيل المثال، أظهرت دراسات عدة وجود إعراض بين مجموعات الأقليات العرقية، بما في ذلك دراسة حديثة تمت بتكليف من المجموعة الاستشارية العلمية للطوارئ التابعة لحكومة المملكة المتحدة، والتي وجدت أنَّ تناول اللقاح بين هذه المجموعات في المملكة المتحدة يتفاوت بصورة واسعة.
وقد وجدت الدراسة أنَّ 72% من ذوي البشرة السوداء أو البريطانيين السود المستطلعة آراؤهم يقولون إنَّهم من المستبعد أو المستبعد جداً أن يتناولوا اللقاح. وكانت الجاليتان الباكستانية والبنغلاديشية هما المجموعة العرقية الأكثر تردداً بعدهم، في ظل وجود 42% منهم من المستبعد أو المستبعد جداً أن يُطعَّموا.
قال هانتر إنَّ هذا يعني أنَّ إجراءات معينة قد تظل كما هي لحماية الأفراد المعرضين للخطر في المجموعات غير المُطعَّمة، مشيراً إلى أنَّ حدوث تزايد آخر في الحالات في الخريف والشتاء أمر ممكن، اعتماداً على النسبة المئوية للسكان الذين إمَّا سيكونون متمتعين بمناعة أو حصلوا على التطعيم بحلول ذلك الوقت.
تؤدي هذه العوامل، إلى جانب حقيقة أنَّ العديد من اللقاحات قيد الاستخدام الآن ليست فعالة بنسبة 100%، إلى استبعاد احتمال مناعة القطيع من على الطاولة، مثلما بيَّنت ورقة بحثية ساهم هانتر في كتابتها مؤخراً.
لكنَّ هانتر صرَّح لشبكة CNN بأنَّه يأمل إمكانية عودة بعض أشكال الحياة الطبيعية بحلول الصيف في ظل “المزيد من القيود المخففة”، مثل ارتداء الكمامات والتباعد الاجتماعي، وقال إنَّ سبب ذلك أنَّ اللقاحات في حين قد لا تقدم مناعة القطيع، فإنَّها ستُسهم في تقليص انتقال العدوى، لأنَّها تقلص خطر ظهور الأعراض والمرض الشديد، وتُعَد الحالات التي تظهر عليها أعراض أكثر احتمالاً لنقل العدوى بنحو ثلاثة أضعاف.
اللقاحات والسلالات الجديدة
لكن ظهور سلالات جديدة من فيروس كورونا يهدد هذا الأمل، لأنَّ الخبراء ببساطة لا يعلمون كيف ستتجاوب اللقاحات مع السلالات الجديدة، وتشير الدراسات بالفعل إلى أنَّ السلالة التي شُوهِدَت لأول مرة في جنوب إفريقيا تتجاوز المناعة التي يسببها التطعيم.
وتشير الدراسات الأولية إلى أنَّ لقاح فايزر/بيونتيك فعَّال ضد السلالة التي شُوهِدَت لأول مرة في المملكة المتحدة، لكنَّ شركة موديرنا قالت الإثنين الماضي، 25 يناير/كانون الثاني، إنَّه في حين يُتوقَّع أن يوفر لقاحها “الحماية من السلالات التي ظهرت واكتُشِفَت حتى تاريخه”، بما في ذلك السلالة التي ظهرت في المملكة المتحدة، تشير الدراسات المبكرة إلى أنَّه قد يكون أقل فعالية إلى حد ما ضد السلالة التي أُبلِغ عنها لأول مرة في جنوب إفريقيا.
وليس واضحاً ما إن كان لقاح أكسفورد/أسترازينيكا، الذي بدأ طرحه في المملكة المتحدة في وقتٍ سابق من هذا الشهر، سيتأثر بالسلالات الجديدة أم لا. وبينما تواصل السلالات فرض تحديات جديدة أمام برامج اللقاحات، يمضي العلماء قدماً بنماذج للتنبؤ بلمحة مما قد يحمله المستقبل.
سيناريوهات متعددة لنتائج اللقاحات
تتنبأ إحدى الدراسات، من إعداد عضو مجموعة الاستجابة الاكتوارية (مرتبطة بالتأمينات) لكوفيد 19 جون روبرتس، في وقتٍ سابق هذا الشهر، بأنَّ الوفيات في المملكة المتحدة قد تتقلص بحلول نهاية مارس/آذار المقبل بنحو 90%، وأنَّ معدلات دخول الحالات للمستشفيات قد تنخفض بنسبة 60% تقريباً بحلول منتصف مارس/آذار.
لكنَّ الدراسة تتبنى السيناريو الأفضل الذي تحقق فيه الحكومة هدفها بتقديم الجرعة الأولى من اللقاح لكل الفئات المعرضة للخطر بحلول 15 فبراير/شباط المقبل، ويقبل فيه كل مَن تُقدَّم لهم الجرعة الحصول عليها.
ويعتمد نموذج روبرتس كذلك على افتراض بأنَّ اللقاح فعال بنسبة 70% في منع العدوى، وبنسبة 100% في منع المرض الخطير الذي من شأنه أن يؤدي إلى دخول المستشفيات أو الوفاة، وهو الافتراض الذي تهدده السلالات الجديدة الآن.
يقول بعض الخبراء إنَّه ليس واضحاً ما إن كانت اللقاحات توفر حماية كاملة من المرض الشديد والموت أم لا. ويقول آخرون إنَّ تناول الجميع للقاح أمر غير واقعي.
وقد يساعد أخذ هذه التحذيرات في الحسبان، ووضع مجموعة واسعة من السيناريوهات الممكنة، في التنبؤ بمتى يمكن أن نأمل رؤية بعض التأثير، وهو ما فعله الباحثون من جامعة وارويك وجامعة أدنبرة وجامعة إمبريال كوليدج لندن في بريطانيا.
إذ قدَّم العلماء، الأسبوع الماضي، مجموعة واسعة من النماذج التي تهدف للتعامل مع العوامل المختلفة التي تجعل طرح اللقاح -ونجاحه- موضع تشكيك.
بحث أحد النماذج الخيارات استناداً إلى طرح اللقاح والحصول عليه في ضوء السلالة التي شُوهِدَت لأول مرة في المملكة المتحدة. ووجد البحث، الذي أجراه د. آن كوري ود. مارك باغيلين من جامعة إمبريال كوليدج لندن، على نحوٍ مفاجئ أنَّه سيكون هناك حاجة لـ”مزيد من القيود من أجل الحصول على نفس المستوى من السيطرة” على الفيروس، بسبب ظهور هذا التحور أو السلالة، ووجدوا أيضاً أنَّه سيتعين حماية 78% من السكان –إمَّا بالتطعيم أو من خلال المناعة الناجمة عن إصابة سابقة- لخفض رقم التكاثر الأساسي (أو “R0″، وهو مؤشر أساسي على تقلُّص أو توسع الجائحة) إلى أقل من مستوى الواحد.
وتنبأوا بأنَّه سيتعين حصول أكثر من 80% من السكان على اللقاح من أجل بلوغ مناعة القطيع، وأنَّه حتى من خلال برنامج تطعيم طموح يشمل تقديم 3 ملايين جرعة أسبوعياً، سيستغرق الأمر أربعة أو خمسة أشهر لتغطية 80% من سكان المملكة المتحدة بالجرعة الأولى.
هذا وقد حصل أكثر من 2.5 مليون شخص في المملكة المتحدة الأسبوع الماضي على أولى جرعاتهم من اللقاح، وحصل 18177 على جرعتهم الثانية. ويُقدِّر الباحثون أنَّ المناعة على مستوى السكان في المملكة المتحدة، والناجمة عن الإصابة بعدوى سابقة حتى منتصف يناير/كانون الثاني، تبلغ 19%.
وأخيراً، وجدت نماذج إمبريال كوليدج لندن أنَّ الرفع الكامل للقيود قبل الصيف “سيؤدي إلى فترات طويلة وربما متعددة من الضغط على المستشفيات، وعدد كبير من الوفيات الإضافية”.
ووجد الأستاذ مارك وولهاوس وفريقه بجامعة إدنبرة نتائج مماثلة. ورأوا أنَّ القيام بتخفيف تدريجي جداً لإجراءات السيطرة على الفيروس، بدايةً من الربيع وتستمر حتى مطلع 2022، سيكون نهجاً أقل مخاطرة بكثير وقد يساعد المملكة المتحدة على الخروج من الجائحة دون إرباك هيئة الخدمات الصحية البريطانية تحت وطأة أعداد الإصابات.
هل ينطبق ذلك على باقي الدول؟
في حين لا يمكن تطبيق أيٍّ من نماذج المملكة المتحدة على البلدان الأخرى، يقول روبرتس إنَّ البلدان التي تتخذ مقاربات شبيهة للمملكة المتحدة –على سبيل المثال من خلال طرح اللقاح للفئات المعرضة للخطر أولاً، إلى جانب فرض إغلاقات على المستوى الوطني وقيود مشددة- قد ترى، أو “تأمل أن ترى”، نتائج مماثلة.
ويحثّ هانتر على توخي الحذر في استقراء ومقارنة النتائج التي تُرى في بلدان مختلفة، لكنَّه يسلط الضوء على أنَّ قوة عملية الملاحظة التي تجريها المملكة المتحدة عقب تقديم اللقاح ناجحة، وأنَّ البيانات الناتجة عنها ستكون ذات فائدة للبلدان الأخرى في المستقبل القريب.
وينبغي أن يكون العلماء في المملكة المتحدة قادرين في غضون بضعة أشهر على دراسة أثر مجموعة كبيرة من العوامل، بما في ذلك مَن حصل على أي لقاح، وبأي جرعات، وما هو حجم الفجوة بينهم.
وقال هانتر: “سيكون ذلك ذا قيمة في مختلف أنحاء العالم”، وقد يسهم في تمهيد الطريق الطويل نحو العودة إلى الحياة الطبيعية.