سر التغاضي المتبادل عن الخطايا بين الحكام العرب وماكرون

انتقد الرئيس الفرنسي الإسلام واعتبره في أزمة، ولكنه نادراً ما انتقد الحكام العرب، كما أنهم بدورهم لم ينتقدوه رغم تعهده بعدم التخلي عن الرسوم المسيئة للرسول، إذ تبدو العلاقة بين ماكرون والحكام العرب ليست فقط حميمية بل مريبة في كثير من الأحيان.

فالرجل الذي نصب نفسه زعيماً لأوروبا ومنتقداً للإسلام نفسه، ومعلماً للمسلمين كيف يكون دينهم، نادراً ما انتقد أصدقاءه من الحكام العرب حتى لو تورطوا في جرائم كبيرة.

غرائب العلاقة بين ماكرون والحكام العرب

صحيح في بعض الأحيان، وجه ماكرون بعض الانتقادات إلى حكام عرب مثلما فعل مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عقب اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي،  أو الانتقادات التي وجهها للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.

ولكن تظل انتقادات خفيفة أشبه بذر الرماد في العيون، لكي يستطيع الرئيس الفرنسي أن يتباهى أمام الصحافة في بلاده بأنه أعطى حلفاءه دروساً في الديمقراطية.

والأهم أن هذه الانتقادات لا تترجم إلى أي شيء على أرض الواقع.

التقليل من آثار حرب اليمن المستمرة منذ سنوات

وعلى سبيل المثال، فقد كشف ماكرون بنفسه أن زعيم سُنة لبنان سعد الحريري كان محتجزاً في السعودية (كان رئيساً للوزراء في ذلك الوقت)، ناسباً الفضل لنفسه في إطلاقه، ولكن احتجاز رجل في مقام رئيس دولة (يحمل أيضاً الجنسية الفرنسية) من قِبل ولي  العهد السعودي، مر دون أي عواقب، تماماً كما مر اغتيال جمال خاشقجي دون عواقب.

ولكن أوضح نموذج لهذه العلاقة الوثيقة بين  ماكرون والأمير محمد بن سلمان يظهر في حرب اليمن التي تصفها المنظمات المعنية بأنها أسوأ أزمة إنسانية في العالم.

ماكرون مع ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد/رويترز

فقد دافع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن مبيعات الأسلحة للسعودية والإمارات في مواجهة الانتقادات، واصفاً الرياض وأبوظبي بالحليفتين في الحرب على الإرهاب، ومشيراً إلى أن باريس حصلت على ضمانات بأنه لن يتم استخدامها ضد المدنيين.

ولم يكن ماكرون الزعيم الأوروبي الوحيد الذي دافع عن صفقات السلاح للسعودية والإمارات رغم تورطهما في حرب اليمن.

ولكن أهمية ما قام به ماكرون هو علاقة بلاده الوثيقة بألمانيا، وهي الدولة الأوروبية الوحيدة التي فرضت حظراً لفترة على تصدير السلاح للسعودية بسبب حرب اليمن.

ودفعت المواقف البريطانية والفرنسية في مسألة تصدير السلاح للسعودية المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، خلال كلمة لها في البوندستاغ، إلى الدفاع عن محاولة إرضاء بريطانيا وفرنسا، اللتين كانتا تضغطان على ألمانيا لكي تسمح بايصال القطع التي تدخل في صناعة الأسلحة، ضمن المشاريع الأوروبية المشتركة.

مقابل إثارة الضجة ضد التدخل التركي

كما أن حماسة ماكرون لاستمرار توريد السلاح للسعودية التي تحارب في اليمن منذ ست سنوات، تبدو لافتة عند مقارنتها باعتراضه الشديد على التدخل التركي العسكري في شمال شرق سوريا والذي استمر بضعة أيام وجاء بعد عدم التزام الولايات المتحدة والأكراد بالاتفاق مع أنقرة الذي يقضي بانسحاب القوات الكردية من بعض المناطق المتفق عليها.

ماكرون مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان/رويترز

يبدو التسامح اللافت مع الحرب السعودية المستمرة منذ سنوات مقابل الانتفاضة الهائجة على التدخل العسكري التركي الذي استمر بضعة أيام ملخصاً لمعادلة ماكرون السياسية وهي: التسامح مع الاستبداد العربي حتى لو كان سبباً للتطرف، والتشدد مع الإسلام السياسي حتى لو كان ديمقراطياً.

واليوم تبدو خطابات ماكرون تجاه قضية الإسلام السياسي والذي يحاول أن ينصبه عدواً داخلياً، لا تختلف كثيراً عن خطابات قادة مصر والإمارات والسعودية، وهو خطاب مختلف كثيراً عن الخطابات الأوروبية خلال فترة الربيع العربي.

الحديث عن أزمة الإسلام وتجاهل دور الاستبداد وغياب الديمقراطية

اللافت أن خطابات ماكرون الناقدة للإسلام السياسي تارة والإسلام برمته تارة، لا تشير إلى أهمية الديمقراطية، وهي تتجاهل في حديثها عن الأزمة التي يعيشها الإسلام، سببين رئيسيين هما التدخل الغربي والاستبداد.

وتتناسى أن أفضل الدولة الإسلامية غالباً هي الأكثر ديمقراطية حتى لو كانت ديمقراطية نسبية  (المغرب، تونس، تركيا، ماليزيا، إندونيسيا)، كما أنها تتجاهل دور السعودية تحديداً في نشر الفكر السلفي الذي ينتمي إليه أغلب الإرهابيين.

فحتى جورج بوش  الابن الذي غزا العراق، اعترف بأن الاستبداد وغياب الديمقراطية سببب للتطرف في المنطقة.

ولكن خطاب ماكرون الذي يركز على الإسلام السياسي وأحياناً الإسلام ذاته، يبدو قريباً لخطاب مصر والإمارات تحديداً، لهذا لم يكن غريباً ان نرى احتفاء من دار الفتوى المصرية بخطاب ماكرون، وتحريضها على الجمعيات الإسلامية في أوروبا بدعوى أنها تنتمي للإخوان المسلمين، مقابل نقد شديد من قِبل الأزهر لها.

ما السر وراء مواقف ماكرون؟

من الصعب تحديد هل تحالف ماكرون مع الحكام العرب المستبدين سببه مواقفه من الإسلام، والإسلام السياسي تحديداً، أم  هذا التحالف الذي دفعه إلى افتعال معركة مع المسلمين في بلاده تحت شعار محاربة الانفصالية؟

ولكن يمكن ملاحظة عدة عوامل وراء مواقف ماكرون.

تلعب الصفقات المالية وخاصة صفقات السلاح دوراً كبيراً في السياسة الفرنسية، وأظهرت باريس أنها دوماً الأقل اهتماماً في الغرب بالبعد الأخلاقي لصفقات السلاح (فرنسا تصدر السلاح لباكستان والهند معاً).

ولم يكن غريباً أن تكون أول صفقة سلاح أبرمها الرئيس المصري عبدالفتاح (قبل أن يصبح رئيساً) بعد الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي هي صفقة الرافال الفرنسية وهي التي مهدت للتحالف بين النظامين بتمويل خليجي في الأغلب.

محاولة وراثة أمريكا

والتحالف الفرنسي مع المستبدين العرب، (والمستبدين في كل مكان) ليس جديداً، ولكن اكتسب زخماً خاصاً في السنوات الماضية.

فقد شهدت منطقة الشرق الأوسط في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما تراجعاً للدور الأمريكي لأنه رأى أن بلاده دفعت تكلفة باهظة لتصدرها المشهد عبر أحداث 11 سبتمبر/أيلول ثم الغزو الأمريكي للعراق، وتحالفه مع المستبدين العرب ودعمها لإسرائيل، مما جعلها هدفاً للعداء الشعبي العربي، ظهر في أحداث 11 سبتمبر.

قرر أوباما أن على الولايات المتحدة أن تتوقف على أن تكون شرطي المنطقة، وخاصة أن سكان المنطقة يرونه شرطياً شريراً في الأغلب.

وكان هدف أوباما الأساسي هو الانسحاب من الشرق الأوسط قدر الإمكان وإلقاء اللوم على المستبدين العرب لتدهور أحوال المنطقة التي يرى أن أهميتها تراجعت لأمريكا (عقيدة أوباما).

وسارعت العديد من القوى الإقليمية والدولية لمحاولة ملء الفراغ الأمريكي بدرجات نجاح مختلفة.

تأييد الربيع العربي ثم الانقلاب عليه

وفي بداية الربيع العربي كان هناك نوع من التحالف في بعض المناطق بين السعودية وقطر وتركيا والدول الغربية، وخاصة فرنسا ضد المستبدين العرب، ولاسيما الأسد المدعوم من إيران وروسيا.

ولكن سرعان ما انفرط عقد هذا التحالف نتيجة تلكؤ الدول الغربية في دعم المعارضة السورية، وصعود المتطرفين، والأهم تغيير أجندة السعودية للعداء الكامل للربيع  العربي بدلاً من العداء في مناطق والتنسيق في مناطق أخرى، وتزامن ذلك مع تغيير ميزان القوى في سوريا تحديداً عبر التدخل الروسي، وفي مصر عبر الإطاحة بمرسي.

كانت السياسة الفرنسية عامة الأسرع تساوقاً مع صعود الدور الإماراتي وتغير الدور السعودي، والتكيف مع التدخل الروسي والإيراني.

وهكذا صعدت بسرعة الانتقادات الغربية، لاسيما الفرنسية، ضد الدور التركي في سوريا، رغم التنسيق السابق والمعلن بين الدول الغربية والخليجية مع تركيا في دعم المعارضة السورية.

ولكن مع صعود ماكرون للسلطة بدا أن فرنسا تحاول الاعتراف بأخطاء ماضيها الاستعماري وسوف تقوم بدور بناء في المنطقة، ولكن الواقع أن باريس ازداد تورطها في دعم الجنرال الليبي خليفة حفتر ومخالفة حظر السلاح في ليبيا، وبدا أن باريس قررت الانتقال بالكامل إلى صف الإمارات والسعودية ومصر، بل إن باريس زايدت على سياسات الدول الثلاث في محاولة التصعيد مع تركيا وتوريط الاتحاد الأوروبي كله في الأمر، مثلما يحدث في شرق المتوسط.

الإسلاميون الشيعة أقرب لنا من السنة

واللافت أنه مقابل تعليقات ماكرون على السياسة التركية، فإنه يُحسن علاقته مع روسيا (العدو المعلن للغرب الذي يحتل القرم وحاول اختراق الانتخابات الفرنسية لدعم منافسة ماكرون) ويتغاضى عن الدور الإماراتي المعروف في ليبيا، والأغرب أنه يسعى بحماس لتحسين العلاقة مع المحور الإيراني، لدرجة أن ماكرون الذي هاجم الأصولية عقد حواراً منفرداً مع رئيس كتلة حزب الله البرلمانية محمد رعد خلال زيارته لبيروت.

وإحدى مفارقات سياسات ماكرون، تبدو في محاولة التقريب  بين حزب الله والإدارة الأمريكية، وتحذيره حزب الله من صعود النفوذ التركي في شمال لبنان عبر الإسلاميين السنة، كأن ماكرون يحرض الحزب الموالي لإيران والذي يشكو اللبنانيين جميعاً من سطوته ضد سنة طرابلس الذين هم أصلاً يشكون المظلومية في البلاد.

إذ يبدو أن مخاوف ماكرون من  الإسلام السياسي تقتصر على الإسلام السياسي السني فقط، وهي سياسة تكاد تكون متطابقة مع مصر والإمارات.

في السياسة الخواتيم تكون عادة مختلفة عن البدايات، فقد تكون بدايات تورط ماكرون في معارك الحلف المعادي للربيع العربي، في البداية تغلب عليها أسباب مصلحية إضافة إلى التركيبة الفرنسية الأيديولوجية المعادية للتدين لاسيما الإسلامي عادة.

ولكن اليوم واضح أن ماكرون متورط شخصياً في هذه المعركة والتي لم يعد يميز فيها بين الإسلاميين والإسلام، وبين المتطرفين والمعتدلين، كما أن المعركة بالنسبة له تمثل فرصة ذهبية لمحاولة استعادة شعبيته التي ظهر تراجعها في الانتخابات المحلية الأخيرة.

وتجدر الإشارة إلى أن إيمانويل ماكرون لا يحاول إخفاء حقيقة أنه يغازل اليمين الفرنسي المحافظ والمتطرف عبر سياسته مع المسلمين، بل إن من الواضح تماماً أن ماكرون يسير على خطى ساركوزي الرئيس الفرنسي الأسبق اليميني الذي يواجه حالياً اتهامات بتلقي تمويل ليبي في الانتخابات.

والقادة العرب ردوا له الجميل

وفي المقابل فإن القادة العرب ردوا لماكرون الجميل، فلم تصدر إدانة لتصريحه الغريب بأن الإسلام في أزمة، أو إدانة لتمسكه بهذه الرسوم، وحتى أغلب الإدانات الرسمية العربية  للرسوم المسيئة للرسول جاءت في معرض إدانة الجريمة البشعة لاغتيال المدرس الذي عرض الرسوم على الطلاب.

وحتى المواقف الشعبية الداعية لمقاطعة المنتجات الفرنسية تظهر في الدول التي لا تنتمي للثلاثي العربي الصديق لماكرون، مثل المغرب والكويت.

قد ينجح ماكرون في الانتخابات الرئاسية جراء التلاعب بمشاعر مواطنيه تجاه الإسلام، وقد يكون لديه الآن حلفاء أقوياء في الشرق الأوسط، ولكن فرنسا ستدفع ثمناً أخلاقياً وواقعياً باهظاً.

فبالإضافة إلى تدمير النسيج الاجتماعي الفرنسي، خاصة أن اليمين المتطرف يمكن أن تمتد شعبويته لقضايا حساسة مثل العلاقة مع الاتحاد الأوروبي (اليمين المتطرف لديه تحفظات على الاتحاد الأوروبي)، فإن ماكرون يخاطر بتنصيب فرنسا عدواً للشعوب العربية والإسلامية مثلما كان الأمر مع أمريكا قبل بضع سنوات.

بالنسبة لمئات الملايين من العرب، لم تعد فرنسا مثلاً أعلى للحريات والبلد الغربي الأكثر فهماً لهم، بل البلد يبنى سياسته على الاستهزاء بمقدساتهم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى