من فيتنام للعراق إلى أفغانستان.. لماذا تنهار الأنظمة التي “يزرعها” الأمريكيون أينما حلوا؟
الهزيمة والفشل هما العنوان الأبرز الذي تناولته وسائل الإعلام الدولية عموماً، والأمريكية خصوصاً؛ مما وضع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في موقف المدافع عن قرار الانسحاب من أفغانستان “بعد تحقيق الأهداف كاملة”، بحسب زعم مسؤولي الإدارة.
وربما تكون السمة المشتركة بين التجارب الأمريكية أو بمعنى أدق الغزو الأمريكي لدولة وإزاحة حكومتها وتأسيس حكومة جديدة تدعمها واشنطن وتقدمها كنموذج أفضل مما كان موجوداً، هي أن تلك الحكومات لا تحقق أي شيء وتسقط سريعا بشكل مدوي وتختفي تماماً دون أن تترك أثراً.
وبالتالي فإن التشابه بين سقوط سايغون في أبريل/نيسان 1975 وبين سقوط كابول في 15 أغسطس/آب 2021 بدا أنه من المستحيل تجاهله، ووجد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن نفسه في مواجهة أسئلة غاضبة تطلب تفسيراً لهذا الفشل وهذه الهزيمة العسكرية والسياسية التي باتت تتكرر بصورة “مهينة” للقوة الأعظم على الساحة الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
أفغانستان ليست فيتنام.. يقول بلينكن
“هذه ليست سايغون”، أصر بلينكن، مضيفاً: “لقد ذهبنا إلى أفغانستان قبل 20 عاماً لتنفيذ مهمة واحدة وهي التعامل مع من هاجمونا يوم 11 سبتمبر/أيلول (2001) وقد نجحنا في تنفيذ هذه المهمة”، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
لكن تصريحات بلينكن في هذا الشأن ناقضتها الصورة الرئيسية التي تصدرت تغطية الأحداث المتسارعة في أفغانستان الأحد 15 أغسطس/آب وهي طائرات الهليكوبتر التي غطت سماء كابول خلال عمليات إجلاء الدبلوماسيين والرعايا الأمريكيين من السفارة إلى مطار كابول الدولي، في تذكير مؤلم بنفس المشهد في سماء سايغون في أبريل/نيسان 1975.
ووجد بلينكن وباقي مسؤولي إدارة بايدن صعوبة بالغة في محاولاتهم تفسير تلك المشاهد والفوضى العارمة التي صاحبت عمليات الإجلاء، كون قرار الانسحاب الأمريكي كان قد تم اتخاذه خلال إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، وجاء بايدن ليعد بتنفيذ الانسحاب بطريقة “منظمة وآمنة”، لكن ما حدث ويحدث جاء مناقضاً تماماً وبدا كما لو أنه فاجأ إدارة بايدن تماماً.
ويرجع أغلب الخبراء الفشل الذريع للولايات المتحدة في أفغانستان بعد 20 عاماً من غزو كلف أكثر من تريليوني دولار وأكثر من 20 ألف قتيل عسكري أمريكي في تحقيق أي شيء على الإطلاق، إلى عدد من الأسباب تعتبر أيضاً نفس أسباب الفشل الأمريكي في فيتنام والعراق وأفغانستان.
غطرسة وأكاذيب الجنرالات
ويعتقد كثير من الخبراء أن الجنرالات وقادة البنتاغون ومسؤولي الاستخبارات يتحملون الجانب الأكبر من أسباب الفشل المتكرر للغزوات الأمريكية الكارثية، وهذا ما عبر عنه المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان جون سوبكو في جزء من رسالته بشأن أسباب الوضع “القائم” في البلاد.
إذ يرى سوبكو أن الجنرالات المتعاقبين في أفغانستان كانوا يضعون أهدافاً قصيرة المدى ليتمكنوا من إعلان نجاحهم عند مغادرتهم مواقعهم بعد عامين أو ثلاثة أعوام، بينما كان يجب تخصيص وقت لجهود إعادة الإعمار مع الاهتمام بالتحديات اللوجستية التي يشكلها هذا البلد الذي يحصل 30% فقط من سكانه على الكهرباء طوال اليوم.
واتهم المفتش العام الجنرالات بإخفاء حجم المشاكل، وقال سوبكو: “في كل مرة كنا نذهب فيها إلى هذا البلد، كان العسكريون يغيرون أهدافهم لتسهيل إعلان نجاح”. وأضاف: “عندما لم يعودوا قادرين على فعل ذلك، فرضوا السرية الدفاعية على الأهداف”، بحسب تقرير لفرانس 24.
وتابع أنهم “يعرفون إلى أي حد كان الجيش الأفغاني سيئاً”، موضحاً أن الذين يستطيعون الاطلاع على الوثائق الخاضعة للسرية الدفاعية يعرفون ذلك أيضاً “لكن المواطن الأمريكي العادي ودافع الضرائب العادي والمسؤول المنتخب العادي والدبلوماسي العادي لا يستطيعون معرفة ذلك”.
والإشارة إلى الجيش الأفغاني تحديداً تستحق التوقف طويلاً، إذ أنفقت الولايات المتحدة مليارات الدولارات لبناء الجيش وتدريبه وتسليحه على مدى عشرين عاماً، وبلغ قوام الجيش المدعوم أمريكياً أكثر من 300 ألف مقاتل لم تجد حركة طالبان التي يقل عدد مقاتليها عن 80 ألفاً صعوبة تذكر في الانتصار بسرعة قياسية ومذهلة للجميع.
وكانت المقارنة بين الجيش الأفغاني- الذي تفاخرت به الإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدى 20 عاماً- وبين مقاتلي حركة طالبان إحدى أبرز زوايا التغطية الغربية لما حدث في أفغانستان، ونشرت الغارديان البريطانية تقريراً بعنوان “حكاية جيشين: لماذا أثبت الجيش الأفغاني أنه لا يستطيع مواجهة طالبان”.
ورصد التقرير الفارق الشاسع عدداً وعتاداً لصالح الجيش الأفغاني، وكيف أن ذلك لم يوقف طالبان من اجتياح البلاد بأكملها فعلياً في غضون أسابيع، بينما استسلم القادة العسكريون دون قتال في غضون ساعات.
“إنها حكاية جيشين، أحدهما (طالبان) ضعيف التجهيز ولكن لديه دوافع أيديولوجية عالية، والآخر مجهز بشكل جيد من الناحية الشكلية، ولكنه يعتمد على دعم الناتو، وقيادته سيئة وينخرها الفساد”.
أمريكا دولة محتلة في نهاية المطاف
كان كارتر مالكاسيان المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) قد نشر مؤخراً كتاباً عن تاريخ الحرب في أفغانستان عنوانه “لا شك إطلاقاً في أننا خسرنا الحرب”، أرجع فيه السبب الرئيسي لانتصار طالبان في نهاية المطاف إلى “كون طالبان تحارب الغزاة بينما بدا أن الجيش الأفغاني مباع إلى الأجانب”.
وذكر مالكاسيان في كتابه نصاً أن “مجرد وجود أمريكيين في أفغانستان ينتهك فكرة هوية أفغانية تستند إلى كرامة وطنية وتاريخ طويل من محاربة الغزاة والتزام ديني بالدفاع عن الوطن”.
وأضاف: “كنا نعتقد أن بعض الأمور كانت ممكنة في أفغانستان: هزيمة طالبان أو السماح للحكومة الأفغانية بأن تستقل، لكن الأمر لم يكن كذلك”. وتابع أن عناصر “الشرطة والجنود لم يرغبوا في المجازفة بحياتهم من أجل حكومة فاسدة تميل إلى إهمالهم”.
وفي هذا السياق أشار تقرير حديث لمنظمة هيومن رايتس ووتش إلى أنه عبر عدم الاهتمام بشكل كافٍ بالضحايا المدنيين لغارات جوية أو الانتهاكات التي يرتكبها أمراء حرب متحالفون مع الغرب، أثار التحالف غضب الشعب الأفغاني.
ورأت هيومن رايتس ووتش أن “ميل الولايات المتحدة إلى إعطاء الأولوية للمكاسب العسكرية في أمد قصير بدلاً من بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية أو حماية حقوق الإنسان، وجه ضربة قاضية للمهمة الأمريكية وكل جهود إعادة الإعمار بعد 2001”. وتابعت المنظمة أن “استياء السكان وانعدام ثقتهم في الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية، سمحا لطالبان بتحقيق مكاسب”.
ويرى كثير من المراقبين أن نجاح حركة طالبان المذهل في السيطرة على أفغانستان خلال أسابيع فقط، وبطريقة سلمية في أغلب الحالات وخصوصاً السيطرة على كابول العاصمة دون قتال، إنما هو دليل واضح على أن تصوير الحركة كما لو أنها لا تحظى بحاضنة شعبية أفغانية هو على الأرجح دعاية أمريكية لا تستند إلى أدلة أو حقائق على الأرض تساندها.
فيتنام والعراق وأفغانستان.. فشل أمريكي متكرر
وهكذا يمكن القول إن جميع حروب الولايات المتحدة الأمريكية منذ ظهورها كقوة عظمى على المسرح الدولي بنهاية الحرب العالمية الثانية تتشابه بشكل لافت في أسبابها ونتائجها أيضاً.
فتدخل أمريكا في الحرب الأهلية في فيتنام لدعم فيتنام الجنوبية في مواجهة فيتنام الشمالية التي كانت مدعومة من المعسكر الشيوعي كان له هدف واحد وهو منع توحيد فيتنام تحت إدارة الحزب الشيوعي الحاكم في شمال فيتنام.
وتسببت تلك الحرب في سقوط أعداد هائلة من القتلى والجرحى فيتناميين وأمريكيين، وتتراوح أعداد القتلى الفيتناميين عسكريين ومدنيين بين مليون و3.5 مليون بينما بلغت أعداد القتلى الأمريكيين أكثر من 85 ألفاً وهناك أيضاً نحو ألفي عسكري في عداد المفقودين حتى الآن، فماذا حققت أمريكا في فيتنام؟
الإجابة لا شيء على الإطلاق، إذ بعد أن أجبرت أمريكا على الانسحاب، بعد أن تسببت حرب فيتنام في انقسام خطير داخل المجتمع الأمريكي وأصبحت حركة مناهضة الحرب هي الأكبر تاريخياً، لم يمر وقت طويل حتى سقطت سايغون عاصمة فيتنام الجنوبية في أيدي القوات الشمالية، وسارعت أمريكا بإجلاء دبلوماسييها ورعاياها وأغلقت سفارتها في أبريل/نيسان 1975. وتم توحيد فيتنام كدولة اشتراكية، وهو ما دخلت أمريكا الحرب لتمنعه من الأساس.
وغزت الولايات المتحدة الأمريكية العراق عام 2003، تحت مزاعم وجود أسلحة دمار شامل في البلاد؛ وهو ما ثبت عدم صحته فيما بعد، وأطاحت بنظام صدام حسين وأعلنت أن هدفها تأسيس نظام ديمقراطي- على غرار النموذج الأمريكي- ليحقق الرفاهية للعراقيين.
ويمكن القول الآن إن نتيجة ذلك الغزو الرئيسية كانت تقديم العراق على طبق من فضة إلى إيران، وتأسيس نظام حكم طائفي ينخر فيه الفساد على مدى ما يقرب من عشرين عاماً، وأهدرت ثروات البلاد الطائلة وتحول العراقيون إلى شعب يعاني أغلبه من انهيار الخدمات الأساسية والبطالة والفساد المستشري، وتتحكم الفصائل المسلحة في مقدرات البلاد والعباد.
وها هي الولايات المتحدة تستعد أيضاً للانسحاب بشكل نهائي من العراق بنهاية العام الجاري، بعد أن فشلت تماماً في تحقيق أي من أهدافها هناك، لسبب بسيط وهو أن فرض النموذج الأمريكي على العراقيين لم يكن هدفاً واقعياً من الأصل، بحسب المراقبين.
والسؤال المطروح الآن هو: هل تتعلم الولايات المتحدة من فشلها المتكرر في فيتنام والعراق وأفغانستان وتتوقف عن تكرار تلك التجارب الكارثية لها وللدول المعنية؟
وربما يكون الأفضل أن نأخذ الإجابة عن هذا السؤال من المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان جون سوبكو نفسه، إذ قال نصاً إن الولايات المتحدة تمتعت بما يكفي من “الغرور للاعتقاد بأننا نستطيع أن نأخذ هذا البلد (أفغانستان) الذي كان في حالة خراب في 2001 ونجعله نرويجاً صغيرة”.
وأضاف سوبكو المكلف منذ 2012 من قبل الكونغرس بمراقبة استخدام الأموال الأمريكية في هذه الحرب: “وصلنا إلى أفغانستان بفكرة تشكيل حكومة مركزية قوية وكان ذلك خطأ”. وأعرب عن أسفه لأن الخبراء كانوا يعرفون أن هذا البلد ليس مناسباً لبنية حكومية من هذا النوع لكن “لم يستمع إليهم أحد”.
ورأى سوبكو أن الولايات المتحدة تصرفت في أفغانستان كما فعلت في العراق وكما فعلت في فيتنام. وقال: “لا تصدق الجنرالات أو السفراء أو مسؤولي الإدارة الذين يقولون: لن نفعل ذلك بعد الآن”، مشيراً إلى أن “هذا بالضبط ما قلناه بعد فيتنام: لن نفعل ذلك مرة أخرى، والمفاجأة أننا فعلنا ذلك في العراق وفعلنا ذلك في أفغانستان”. وتابع: “سنفعل ذلك مرة أخرى”.