تحليلات و آراء

هل يستطيع الاتفاق الإطاري نقل السودان للديمقراطية، أم يؤدي لتفتيت البلاد؟

حالة من عدم اليقين تحيط بـ”الاتفاق الإطاري السوداني”، الذي وقع مؤخراً بين قيادة الجيش وبعض مكونات المعارضة، وسط مؤشرات بأنه قد يوفر فرصة للعسكريين للتنصل مجدداً من الاتفاقات السابقة، إضافة لرفض جزء كبير من المعارضة السودانية للاتفاق.

ووقّع المكون العسكري السوداني مع قوى مدنية، على رأسها “تحالف الحرية والتغيير – المجلس المركزي” اتفاقاً إطارياً في 5 ديسمبر/كانون أول لإدارة مرحلة انتقالية لمدة عامين، تبدأ مع تعيين رئيس وزراء سيتفق عليه الموقعون، وذلك استجابة لضغوط الآلية الرباعية (المكونة من الولايات المتحدة الأمريكية – بريطانيا – الإمارات – السعودية) بالإضافة لضغوط ألمانية وفرنسية.

والاتفاق الإطاري السوداني هو مرحلة أولى، ستتبعه مرحلة ثانية، تشمل اتفاقاً نهائياً بين المدنيين والعسكريين، وينص على تشكيل حكومة مدنية يرأسها رئيس وزراء بصلاحيات واسعة، بالإضافة إلى مجلس للسيادة برئاسة مدنية تتولى السلطة خلال فترة انتقالية مدتها 24 شهراً يعقبها إجراء انتخابات، أي نهاية عام 2024 أو بداية 2025، علماً بأن اتفاق تسليم السلطة السابق، الذي أخلّ به العسكريون، كان ينص على تسليم السلطة عام 2023.

ووقع الاتفاق عن المكون العسكري قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو، بينما وقع عن المكون المدني نحو أربعين حزباً ونقابات مهنية، من بينها مجموعة المجلس المركزي، وفصائل مسلحة، وأحزاب سياسية ذات توجهات مختلفة.

وأبرز الموقعين عن القوى المدنية، هو قطاع من قوى الحرية والتغيير، وهو الفصيل المدني الرئيسي الذي استُبعد منذ استئثار الجيش بالسلطة، إثر انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2021، ولكن الاتفاق الإطاري عارضته قوى أساسية، منها ما هو محسوب على القوى المدنية، ومنها قوى إسلامية أو قوى مسلحة إقليمية من بينها فصيل من قوى الحرية والتغيير.

أهم بنود الاتفاق الإطاري السوداني

من أهم البنود التي تضمنها الاتفاق الإطاري السوداني، أن السلطة الانتقالية “مدنية” دون مشاركة القوات النظامية (الجيش والدعم السريع والمخابرات العامة والشرطة)، وينأى الاتفاق بالجيش عن السياسة، ويحظر على القوات النظامية الأعمال الاستثمارية والتجارية، ما عدا التي تتعلق بالتصنيع الحربي أو المهام العسكرية وتكون خاضعة لإشراف وزارة المالية، وتؤول جميع الشركات التي تعمل في قطاعات مدنية إلى الوزارة.

ويحصر الاتفاق مهام جهاز المخابرات في جمع المعلومات وتحليلها وتقديمها للجهات المختصة، ولا تكون له سلطة اعتقال أو احتجاز، ويتبع لرئيس الوزراء، الذي يعين المدير العام للجهاز ونوابه، كما عرف الاتفاق “قوات الدعم السريع”، بأنها تشكيلات عسكرية تتبع القوات المسلحة، ويكون رأس الدولة قائداً أعلى لها، موضحاً أنه ضمن خطة الإصلاح الأمني والعسكري التي ستقود إلى جيش مهني قومي واحد، سيتم دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة وفق الجداول المتفق عليها.

اتفاق تسليم السلطة السابق في السودان الذي أبرم في عام 2019 ثم تنصل منه العسكريون/رويترز

وبحسب الاتفاق أيضاً؛ تتكون هياكل السلطة الانتقالية من (المجلس التشريعي الانتقالي، المستوى السيادي الانتقالي، مجلس الوزراء الانتقالي، المجالس العدلية والمفوضيات المستقلة)، ففي المستوى السيادي تقوم قوى الثورة الموقعة على الإعلان السياسي بالتشاور لاختيار مستوى سيادي مدني محدود بمهام شرفية يمثل رأساً للدولة ورمزاً للسيادة وقائداً للأجهزة النظامية.

وأرجأ الاتفاق الإطاري السوداني 4 قضايا إلى مرحلة الاتفاق النهائي، وهي العدالة والعدالة الانتقالية، الإصلاح الأمني والعسكري، اتفاق جوبا واستكمال السلام، وإعادة لجنة إزالة التمكين لتفكيك نظام “البشير”.

وسبق أن وافق الجيش السوداني على تقاسم السلطة مع مسؤولين عينتهم جماعات سياسية مدنية، ريثما يتم إجراء انتخابات، وذلك بموجب اتفاق أُبرم في أغسطس/آب 2019، لكن ذلك الترتيب تعطل فجأة نتيجة انقلاب عسكري في 25 من أكتوبر/تشرين الأوّل 2021 أطاح برئيس الوزراء الانتقالي السابق المختار من قبل القوى المدنية عبد الله حمدوك، حيث، أعلن قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، آنذاك إقالة حمدوك، كما أعلن حلّ مجلس السيادة، وهما سلطتَا الحكم في المرحلة الانتقاليّة التي كان يُفترض أن تفضي إلى تسليم السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة ديمقراطياً عام 2023.

وبالرغم من إعادة حمدوك إلى منصبه من دون حكومته في 21 من نوفمبر/تشرين الثاني 2021، بموجب اتّفاق سياسي معه، إلا أن هذا الاتفاق لم ينَل رضا العديد من السودانيين الذين باتوا يطالبون بحكم مدني خالص، واعتبرت أغلب القوى المدنية قبول حمدوك بالعودة تحالفاً مع العسكر وتخلياً عن الثورة، وفقد الرجل دوره لحد كبير كممثل للقوى المدنية.

لماذا يعزز الاتفاق موقف قيادة الجيش؟

بعد أن ألقى العسكريون الكرة في ملعب المدنيين، أصبح التشرذم أكثر مما مضى، وانقسمت القوى المدنية بين من يرون بضرورة التعاون مع الجيش للخروج من المأزق، ومن يرون تنحية الجيش عن الحكم بشكل كامل. ففي سبتمبر/أيلول الماضي، طرحت اللجنة التسييرية لنقابة المحامين وثيقة “مشروع الدستور الانتقالي”، وتبنتها المجموعة الرباعية، وقبلت قوى “إعلان الحرية والتغيير – المجلس المركزي” التفاوض حولها مع المكون العسكري من أجل الوصول إلى تسوية سياسية، أفضت إلى توقيع الاتفاق الإطاري، في ظل ضغوط الآلية الرباعية الاقتصادية والسياسية على العسكريين لتقديم تنازلات والقبول بالشراكة مع المدنيين.

لا يقدم الاتفاق معالجة منطقية للأوضاع في السودان؛ حسبما ورد في تقرير لمركز “أسباب” للدراسات السياسية والاستراتيجية.

إذ يرى التقرير أنه بالنظر إلى موازين القوى الداخلية، يظل الجيش السوداني هو الفاعل الرئيسي والأقوى في البلاد، بينما المكونات المدنية التي وقعت على الاتفاق الإطاري هى أضعف الكيانات المدنية الموجودة، وغير منسجمة مع بعضها، ولا تحظى بقاعدة شعبية كافية لمعادلة نفوذ الجيش. لذلك؛ تراهن هذه القوى بصورة متزايدة على الضغوط الخارجية على قادة الجيش، وهو رهان أثبت الجيش في مناسبات سابقة قدرته على الالتفاف حول هذه الضغوط من خلال علاقات متنوعة مع الأطراف الإقليمية الفاعلة.

وحتى قبل أيام من الاتفاق؛ صرح قائد الجيش “عبد الفتاح البرهان” بأن التدخل في شؤون الجيش خط أحمر ولن يسمح به، وهو أمر لا يقتصر ضمناً على شؤونه العسكرية الاحترافية، ولكن من المفهوم أنه يشمل النفوذ السياسي والاقتصادي.

هل تتعاون المخابرات مع رئيس وزراء مدني؟

كما أن بعض البنود التي تضمنها الاتفاق تواجه تحديات من المتوقع أن تعيق تنفيذها؛ فلا قوات الدعم السريع ستقبل بالحد من نشاطها وإنهاء استقلالها عن الجيش، ويعزز من ذلك توقيع “البرهان” ونائبه “حميدتي” على الاتفاق كل على حدة، ما يشير إلى أن قوات الدعم السريع طرف مستقل في هذا الاتفاق وغير تابعة للجيش.

ومع أن الاتفاق الإطاري السوداني يعطي للقوى المدنية ميزة السيطرة على الأجهزة الأمنية والمخابرات، فإن الجيش يظل هو القوى الأكبر في البلاد، ومن يسيطر عليه (وزير الدفاع في هذه الحالة)، كما في كل الدول النامية، سيسيطر على البلاد وقتما يشاء.

رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاج البرهان مع رئيس الحكومة السابق عبد الله حمدوك/رويترز

كما أن المخابرات العامة لا يتوقع أن تتجاوب بسهولة مع تقليص نفوذها وسحب أدوات قوتها، إضافة لأن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية بطبيعتها قادرة على مراوغة قادتها الذين سيتم تعيينهم من قبل رئيس وزراء مدني.

والأهم أن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية تعلم أن مركز القوة الحقيقية هو البرهان وحميدتي، حيث يقود الأول الجيش، والثاني لديه ميليشيات الدعم السريع التي تدين له، وموراد مالية هائلة عبر سيطرته على تجارة الذهب في دارفور.

هل يقبل حميدتي التخلي عن سيطرته المطلقة على قوات الدعم السريع؟

والأغرب افتراض أن رجلاً مثل البرهان سيتخلى عن السلطة ببساطة للقوى المدنية، وكذلك حميدتي سيقبل دمج قوات الدعم السريع التي تدين له بالولاء الشخصي، وسيقبل التخلي عن سيطرته على الذهب السوداني، وهما العاملان اللذان يجعلانه أقوى رجل في البلاد، حيث يمتلك ذهب السودان وسيفه، ولا سيما أن تخلي الرجلين عن السلطة قد يعرضهما لمحاكمات خاصة في مذبحة القيادة العامة للقوات المسلحة.

فمن خلال مراجعة تاريخ المرحلة الانتقالية منذ عزل الرئيس السابق عمر حسن البشير، يظهر أن قادة الجيش وتحديداً البرهان وحميدتي يلجأون دوماً لعقد اتفاقات جديدة لإبطال الاتفاق الأصلي لتسليم السلطة، وبعد أن فعلوا ذلك مع القوى المسلحة الإقليمية، فإن الاتفاق الإطاري الجديد حقق لهم ذلك بموافقة ما يُعرف بالقوى المدنية، التي هي خصم لهم، وتقدم نفسها كمتحدثة باسم الثورة وأحياناً الشعب السوداني.

وعلى الجانب الآخر؛ تم توقيع الاتفاق بسرعة من دون انتظار موافقة العديد من القوى الرئيسية بالبلاد، وهو الأمر الذي سيفضي على الأرجح إلى استمرار الاضطراب السياسي والأمني، وسيعيق عمل أي حكومة انتقالية مقبلة؛ حيث رفضه فصيل مهم  من المعارضة هو “قوى الحرية والتغيير – التوافق الوطني”، والحركتان المسلحتان الرئيستان، حركة العدل والمساواة برئاسة وزير المالية “جبريل إبراهيم”، وحركة تحرير السودان برئاسة “أركو مناوي حاكم”، وشيخ قبائل الهدندوة والبجا في شرق السودان “محمد الأمين ترك”، وعدد من لجان المقاومة الشعبية والحزب الشيوعي، وقطاعات واسعة من الإسلاميين على رأسهم المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية وطرق صوفية وشيوخ قبائل، بينما وافقت أنصار السنة المحمدية والمؤتمر الشعبي.

الاتفاق الإطاري السوداني
محمد حمدان دقلو الشهير بـ”حميدتي” قائد قوات الدعم السريع/رويترز

وأيضاً رفض الاتفاق جناح من الطائفة الختمية بزعامة “محمد عثمان الميرغني” الذي عاد من مصر مؤخراً بعد انقطاع عن السودان لمدة 9 سنوات، ما يعكس حقيقة الموقف المصري من الاتفاق، نظراً لما يتمتع به “الميرغني” من علاقات وثيقة بالمصريين.

فمن المعروف أن حكومة الحرية والتغيير السابقة، والتي ستشكل الحكومة الانتقالية المنتظرة امتدادا لها، لم تكن على وفاق كامل مع سياسات مصر، خاصة فيما يتعلق بالموقف من سد النهضة والنزاع حول السيادة على مثلث حلايب وشلاتين. وهو ما عبر عنه الموقف الرسمي المقتضب الذي صرح به مساعد وزير الخارجية المصري لشؤون السودان، حسام عيسي، عقب الاتفاق، عن حياد القاهرة تجاه كل الأطراف السودانية وتطلعها لأن تسفر الجهود الدولية عن “اتفاق شامل” بينهم، في إشارة ضمنية لعدم تمتع الاتفاق الإطاري بهذه الصفة.

بنود مفخخة بالاتفاق واستمرار الأزمة قد يهدد وحدة السودان

وعلى الجانب الآخر؛ فإن استمرار الأزمة وإطالة أمدها، قد يهدد تماسك ووحدة السودان؛ فقد تعيد كيانات غرب السودان طرح موضوع الانفصال مجدداً، كما أن الشرق سيتجه نحو التصعيد الذي ظهرت بوادره خلال الشهر الماضي بإعلان أمانة مجلس نظارات البجا، تفعيل “حق تقرير المصير”، وتنصيب نفسها حكومة مؤقتة للإقليم، كما سيدفع كيانات في الوسط والشمال للدفاع عن نفسها خاصة بعد تنامي الشعور بأن الطريق الوحيد للحصول على الحقوق هو في رفع السلاح في وجه القوات المسلحة، وهو ما تعزز مع إعلان مجموعة من العسكريين المتقاعدين بإقليم الوسط عن تشكيل تنظيم سياسي عسكري تحت مسمى “قوات كيان الوطن”، حيث قالوا: إنه يهدف لخلق توازن في القوى المسلحة وتحقيق العدالة الاجتماعية.

ويوجد في الاتفاق الإطاري السوداني ما يصفه محمد عثمان عوض الله في مقال نُشر بـ”عربي بوست” بالبنود المفخخة، منها اختيار قادة السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وصلاحية هذا الاختيار أُعطيت حصراً إلى التكوين السياسي (المسمى قحت) دون سواها من القوى السياسية الأخرى الموقعة على الاتفاق، وهذا تمييز تفضيلي لقحت، ظالم لغيرها.

كما أن الاتفاق الإطار يؤدي لتقوية قوات الدعم السريع مقابل إضعاف الجيش، خاصة في ناحيتي الاستثمار والسمعة، وهذا النص مكتوب بوضوح (نزع استثمارات الجيش مع الإبقاء على استثمارات الدعم السريع)، كما أن توقيع الفريق حميدتي أصالة عن نفسه، إلى جانب الفريق البرهان، يظهر الدعم السريع بمثابة القوى الموازية للجيش والمنفصلة عنه، والتي لها تقديراتها السياسية الخاصة بها، والتي تخول لها التوقيع بتمثيل وإرادة منفصلة.

ويرى عوض الله أنه توجد العديد من المؤشرات القوية التي تدل على وجود بنود سرية في الاتفاق. وهو ما رشحت تسميته بـ(صفقة منح السلطة لـ(قحت)، مقابل منح الحماية القضائية للعسكر مع تهدئة الشارع ضده).

واعترف الرئيس البرهان بطلب هذه الحماية في لقائه مع مدير مكتب قناة الجزيرة بالخرطوم الأستاذ المسلمي الكباشي، وبرر طلب الحماية القضائية، أسوة بما حصل في ثورة 1964 للمجلس العسكري بقيادة الفريق إبراهيم عبود.

رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان مع رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد/رويترز
رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان مع رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد/رويترز، أرشيفية

كما يشير إلى حقيقة أن الاتفاق هو صناعة أجنبية كاملة للاتفاق، وهذه الصناعة الأجنبية اعترف بها لاحقاً وعلى الملأ كل من المبعوث الأممي فولكر ود. مريم الصادق، مقابل والإنكار في البداية. رغم أن هذا الدور الخارجي معروف للرأي العام المحلي والخارجي، إلا أن الاعتراف الرسمي به جاء متأخراً بعد أن كشفه الإعلام المحلي.

واللافت في هذا الصدد، تصريح السفير الأمريكي للقائد مناوي، بحرمان الملتحقين حديثاً بالاتفاق الإطاري من التوقيع على البرنامج السياسي للحكومة المقبلة؛ أي السماح لهم بالتوقيع على الاتفاق الإطاري العام، مع حرمانهم من التوقيع على البرنامج السياسي التفصيلي. هذه واحدة من الأدلة الكثيرة الدامغة التي تؤكد تحكم القوى الأجنبية في صناعة وقيادة المشهد السياسي السوداني الحالي. يذكر أن السفير الأمريكي في طوافه على ولايات السودان لمقابلة الزعماء المحليين والإدارات الأهلية، كان قد صرح وبذات الوضوح لأحد الزعامات المحلية وهو الناظر دقل، بأنهم لن يسمحوا بإقامة انتخابات في الوقت الراهن، وبرر ذلك بالنص الآتي: تفادي أن يفوز بها الإسلاميون.

أما المبعوث الأممي، فولكر، فكان قد طلب من الزعيم القبلي الآخر الناظر ترك بأن يتخلى عن دعمه للتيار الإسلامي العريض. ويعلق عوض الله قائلاً “هكذا وصل حال الجرأة من التدخل الخارجي في أدق التفاصيل بتجنيد الزعامات واستقطابها لصالح أحد التكتلات السياسية أو ضده كما التدخل في نتائج الانتخابات والاحتياط بأن يفوز بها هذا أو ذاك”.

كما أن المنهج الذي كُتب به الاتفاق الإطاري، والذي هو قائم، وبكل وضوح وبلا مواربة، على تقسيم  المؤيدين له إلى عدة فئات. فئة درجة أولى وسماهم القوى الثورية (صلاحيات سيوبر)، وفئة أخرى درجة ثانية سماهم (قوى الانتقال)، وهؤلاء ليس لهم الحق في اختيار هياكل السلطة التنفيذية العليا.

أما الفئة الثالثة، فهي التي وقعت على الاتفاق الإطاري بعد إعلانه، فهذه ممنوعة من التوقيع على البرنامج السياسي. هذا التقسيم ستتولد عنه انقسامات داخلية في المستقبل القريب جداً.

الاتفاق جاء مدفوعاً بالرغبة في إقصاء الإسلاميين عبر تأخير الانتخابات

فالأزمة في السودان عميقة ومتجذرة، ومن المرجح ألا يفضي الاتفاق الإطاري إلى حل ملموس لها في المدى القريب، في ظل أنه يبدو قاصرا عن التعامل مع التعقيدات القبلية والسياسية والأمنية وما يرتبط بها من مساحات نفوذ فعلية، حسب تقرير مركز أسباب.

وفي الواقع جاء الاتفاق، بصورة كبيرة، مدفوعاً بالاستجابة لضغوط خارجية، تحركها دوافع خاصة مرتبطة بالرغبة في إبعاد الإسلاميين عن المعادلة السياسية، وهو ما حال دون تمتع الاتفاق بإجماع سياسي داخلي أوسع.

فإحدى معضلات المرحلة الانتقالية في السودان هي رغبة القوى المدنية في عدم إجراء انتخابات بسرعة، كما تقول هي نفسها هي خوفهم من فوز الإسلاميين بها، ولذلك يريدون فترة انتقالية طويلة يسيطرون على السلطة خلالها دون انتخابات، لإضعاف الإسلاميين تحت مسمى إزالة تمكين النظام السابق.

فائتلاف قوى الحرية والتغيير الذي يسيطر عليه اليسار السوداني، يعتبر عدوه الرئيسي الإسلاميين، وفي سبيل هذا التفكير رأى التحالف وتقاسم السلطة مع ما يمكن تسميته المكون غير المؤدلج في الجيش السوداني بما في ذلك أمير الحرب السابق محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع المعروف باسم حميدتي، والذي تتهم قواته بأنها امتداد لميليشيات الجنجاويد الموصومة بأنها ارتكبت جرائم في دارفور.

وما زال قطاع من القوى المدنية يصر على هذا النهج، رغم أن الفترة السابقة كانت تمثل فرصة له لتقوية موقفه في الشارع وتنظيم صفوفه للتقدم للانتخابات.

وبالنظر إلى ضعف القوى المدنية وإنقساماتها تركزها بالأساس في المدن الكبرى وخاصة العاصمة الخرطوم، وتعدد القوى القبلية والإقليمية، فإن إصرار القوى المدنية على تأجيل الانتخابات لمنع فوز محتمل للإسلاميين سيستغله العسكريون في الأغلب للتنصل من الاتفاق في توقيت ما كما فعلوا سابقاً.

وعلى الرغم من الدعم الإقليمي والغربي للاتفاق الإطاري، فإن الطريق إلى اتفاق نهائي يحمل نفس مضامين الاتفاق الإطاري ما زال غير مرجح في المدى القريب؛ خاصة أنه يضع القوى السياسية في مواجهة بعضها البعض، ويكرس لانقسام دائم ومتزايد بين كل المكونات اليسارية والإسلامية، التي لم يتوحّد أي منها بصورة كاملة حول الموقف من التوقيع علي الاتفاق، ومن ثم تبدو القوى السياسية متصارعة ومشتتة في مواجهة غير واقعية وغير متكافئة مع نفوذ الجيش.

على الرغم من وضوح الاتفاق فيما يتعلق بحدود دور الجيش، فإنه من غير المتوقع أن يؤدي في المدى القريب إلى الحد من نفوذه السياسي أو الاقتصادي، خاصة في ظل انقسام القوى السياسية وصراعها، وفي ظل ما أظهره قادة الجيش من القدرة على الاستفادة من تعارض وتنوع مصالح الأطراف الخارجية؛ فخلال الفترة الماضية عزز “البرهان” الشراكة مع مصر، ووقع اتفاقا استثماريا استراتيجيا مع الإمارات لتطوير ميناء “أبو عمامة” السوداني، فضلا عن تصاعد الاتصالات مع “إسرائيل”.

وحتى مع الضغوط الغربية، حرصت الولايات المتحدة على إعادة تعيين سفيرها لدى الخرطوم رغم غياب حكومة مدنية، حرصا على الموازنة بين ممارسة الضغوط على العسكريين وفي نفس الوقت ضمان ألا تدفعهم لمزيد من الاعتماد على روسيا والصين أمنياً واقتصادياً. أي إن الاتفاق في الأجل القصير يخدم توجهات أطراف مثل الولايات المتحدة وأوروبا والسعودية والإمارات و”إسرائيل”، بينما يثير تحفظ مصر.

والتساؤل الأهم لماذا لم يتم إجراء انتخابات بدلاً من كل هذه الاتفاقات الغامضة، خاصة أن طول الفترة الانتقالية والنشاط السياسي يسمح للشعب السوداني الآن بفرز من هو أصلح، ويفترض أن نضال القوى المدنية في العاصمة والمدن تحديداً خلال السنوات الماضية، وفر لها فرصة لا تعوض لبناء روابط وتعزيز شبكاتها الجماهيرية، بما يؤهلها لخوض الانتخابات.

ولكن القوى المدنية تصرّ على تجربة ما سبق أن جرّبته مع افتراض حسن النية في العسكريين من أجل ضمان إقصاء الإسلاميين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى